‏إظهار الرسائل ذات التسميات في الشعر. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات في الشعر. إظهار كافة الرسائل

الخميس، 20 أغسطس 2015

قطار محمود درويش الساقط من الخريطة منذ ستين عاما

     نشر الشاعر محمود درويش مؤخرا قصيدته الأخيرة (على محطة قطار سقط عن الخريطة) لمناسبة مرور ستين عاما على اغتصاب فلسطين، ولأن هذه القصيدة – كما نرى- واحدة من القصائد المهمة التي تفصح عن خصوصية تجربة الشاعر، فقد وجدنا أن من المهم تأملها ودراسة خصائصها. (يمكن الاطلاع على القصيدة في الرابط http://www.alquds.com/node/26827).
من المعروف أن درويش ينتمي إلى المدرسة السيابية، وقد صرح هو بذلك في غير مناسبة، ولعل الطابع المميز لهذه المدرسة يتمثل بالعناية بتدفق الإيقاع الذي لا تنازل عنه، والاهتمام بالصور المجازية المركبة والمعقدة التي تمتد على مدى أسطر عدة وتتشابك فيما بينها لتصنع لحمة النص وسداه.
غير أن هذه القصيدة تتضمن تطويرا مهما للتجربة الإيقاعية يتجلى بذهاب الشاعر إلى جعلها جزءا أساسيا من بناء الدلالة الشعرية، لتخرج من كونها محض خلفية شعورية تسهم في بناء الجو النفسي للقصيدة إلى عنصر تركيبي يؤدي معاني ودلالات فوق تلك التي تؤديها المفردات
تتكون القصيدة من مائة وخمسة وأربعين سطرا حسب الشكل الطباعي الذي وضعه الشاعر، أما الدلالة الإجمالية الذي أرادت التعبير عنه فهو النكوص والإحباط، وهي تبدأ بالأسطر:


عُشْبّ ، هواء يابس ، شوك ، وصبار
على سلك الحديد. هناك شكل الشيء
في عبثية اللاشكل يمضغ ظًلَّهُ...
عدم هناك موثق.. ومطوَّقّ بنقيضه
ويمامتان تحلقان
على سقيفة غرفة مهجورة عند المحطةً
والمحطةُ مثل وشم ذاب في جسد المكان
هناك ايضا سروتان نحيلتان كإبرتين طويلتين
تطرّزان سحابة صفراء ليمونيّةً
..........................


إن أول ما يلفت الانتباه في هذه الأسطر ظاهرة التدوير، فلا سطر منها ينتهي بنهاية تفعيلة البحر العروضي تقريبا، إذ أن هناك دائما حرف أو حروف زائدة لا بد من وصلها بالسطر التالي ليستقيم الوزن، فالقصيدة من تفعيلة الكامل (متفاعلن)، ولكي تقرأ الأسطر قراءة عروضية سليمة يجب أن تكون هكذا:


عُشْبّ ، هواء يابس ، شوك ، وصبـ
بار على سلك الحديد. هناك شكـ
ل الشيء في عبثية اللاشكل يمضغ ظًلَّهُ...
عدم هناك موثق.. ومطوَّقّ بنقيضه
ويمامتان تحلقا
ن على سقيفة غرفة مهجورة عند المحط
طةً والمحطةُ مثل وشم ذاب في جسد المكا
ن هناك ايضا سروتان نحيلتان كإبرتين طويلتي
ن تطرّزان سحابة صفراء ليمونيّةً


إن الوقفات في نهايات الأسطر وقفات نحوية، لكنها لا تتساوق مع النهايات الفيزياوية للهيكل الوزني، وعلى القارئ أن ل يتوقف أبدا إذا أراد الإحساس بالإيقاع العروضي.
هذا التعارض بين السياق النحوي والهيكل العروضي يعبّر بقوة عن الدلالة العامة للقصيدة، فالجملة تصل نهايتها النحوية، غير أن الوزن يجبرها بقوته الإيقاعية على الاتصال بالجملة التالية وعدم التوقف، فهنا نظامان متعارضان، الأول اختياري وهو الشكل النحوي الذي يفترض أن يتمكن الشاعر من التحكم به وتطويعه كما يشاء، فيقف عندما يريد الوقوف ويصل عندما يريد الوصل، ونظام إجباري لا يتيح لذلك النظام الاختياري الفسحة المتوقعة من الحرية. هذا التعارض يشبه ويصور بالضبط الدلالة العامة للنص، الرغبة في التحرير وإرادة العودة خيارات مصيرية عند الفلسطيني، غير أن مجرى التاريخ وما يحفل به من أحداث منذ ستين عاما لا تجري بما تشتهي السفن نظام إجباري يحبط تلك الخيارات ولا يتيح لها فسحة لكي تتحقق. خيارات الفلسطيني المصيرية تقابل النحو. ومجرى التاريخ يقابل الشكل الوزني المفروض عليه.
أما الظاهرة الأخرى في بنية هذه القصيدة فهي إزدواجية الصوت، لا بمعنى تعدد الأصوات المعروف في النصوص المعاصرة، بل إن المتكلم هنا يتكلم بصوتين، فالنص يشبه إلى حد كبيرشخصا يتحدث في جمع من الناس، وفي الوقت ذاته يحدث نفسه لإيجاد تفسيرات أكثر عمقا من تلك التي يقولها علنا، فالهزيمة أكبر من كل الكلمات التي يمكن أن تقال وحتى من تلك التي لا يمكن أن تقال. في النص عبارات معترضة يضعها الشاعر بين قوسين، وهي يمكن أن تكون علامات إرشادية لفهم النص وتحديد منعطفاته الدلالية، غير أن تغير نغمتها وطبقتها ومزاجها يشير إلى أنها ليست جزءا أصيلا من السياق, إنها أشبه ما تكون بالتعليق أو حديث المرء مع نفسه:


وهناك سائحةّ تصوّر مشهدين:
الأوّلَ ، الشمسَ التي افترشتْ سرير البحرً
والثاني ، خُلوَّ المقعدً الخشبيًّ من كيس المسافرً
(يضجر الذهب السماويُّ المنافقُ من صلابتهً)
وقفتُ على المحطة.. لا لأنتظر القطارَ
ولا عواطفيَ الخبيئةَ في جماليات شيء ما بعيدْ ،


فالسطر بين القوسين جاء بلغة أكثر صرامة وأكثر يأسا من  الأسطر المحيطة به.


ألا تزال بقيتي تكفي لينتصر الخياليُّ الخفيفُ
على فساد الواقعيًّ؟ ألا تزال غزالتي حُبلَى؟
(كبرنا. كم كبرنا ، والطريق الي السماء طويلةّ)
كان القطار يسير كالأفعى الوديعة من
بلاد الشام حتى مصر. كان صفيرُهُ
يخفي ثُغاءَ الماعزً المبحوحَ عن نهم الذئاب


وهنا يعبر السطر بين القوسين عن  أن الموت صار أمنية بعيدة المنال، وهكذا كل العبارات بين الأقواس في القصيدة تأتي تعبيرا صادقا بلغة مرة عن الإحباط واليأس، ولأن الشاعر يريد إبراز أهمية هذه الأسطر بين الأقواس، فإنه يختتم القصيدة بواحد منها:


................يقول لي القضاة المنهكون
من الحقيقة: كل ما في الامر أن حوادث
الطرقات أمرّ شائع. سقط القطار عن
الخريطة واحترقتَ بجمرة الماضي. وهذا لم
يكن غزواً،
ولكني اقول: وكل ما في الأمر اني
لا اصدّق غير حدسي
(لم ازل حيا)


لا تدل العبارة (لم أزل حيا) على السعادة بالبقاء على قيد الحياة  كما هو المفترض في مثلها، فالسياق يشير الى أن المتكلم هنا يقولها أسفا، فهو يتمنى الموت ولا يناله، ويمكننا أن نلاحظ كيف ربط الشاعر بين هذه الأسطر التي بين قوسين وبين الهيكل الوزني، فالعبارة (لم أزل حيا) لم تنته بنهاية التفعيلة لتصبح وقفة نهاية فيزياوية للقصيدة، إنها وقفة نحوية، لكن التفعيلة الأخيرة لما تزل ناقصة تبحث عن تتمتها، أو إن التدوير يريد الاستمرارالى ما لا نهاية:


ولكني اقول: وكل ما في الأمر اني
علن متفاعلن متفاعلن متفاعلن متـ
لا اصدّق غير حدسي
ـفاعلن متفاعلن متـ
(لم ازل حيا)
ـفاعلن متفا


وفي هذا تعبير واضح عن استمرار المأساة. لا يريد الهيكل الوزني التوقف، ولا يريد التاريخ أن يقف وقفة ينصف بها مظلمة الشاعر، ومظلمة الفلسطيني. أما النحو فقد انتهى إلى تعبير منفي عن الحياة ((لم) أزل حيا).



الاثنين، 17 أغسطس 2015

القافية بين التراث والمعاصرة

لمدة قد تجاوزت ألفا وخمسمائة عام كانت القافية تمثل الصوت الأبرز في النظم العربي. وكانت تحمل من الأهمية والجاذبية والسحر ما حمل الأقدمين على التدقيق في دراستها حتى وضعوا علما أطلق عليه اسم (علم القوافي وألّفوا فيه المصنفات والفصول والرسائل (مثل كتاب القوافي للقاضي أبي يعلى التنوخي، والكافي في العروض والقوافي للخطيب التبريزي).
في القصيدة التقليدية تبدو القافية ركنا من أركان النظم، لا يمكن التخلّي عنه إطلاقا، فالبناء التناظري لتلك القصيدة يوجب إيجاد رابط مادي يشد الأبيات إلى بعضها، فكانت القافية، بوصفها النهاية الفيزياوية للبيت هي ذلك الرابط الذي ارتضته الذائقة العربية.
إنّ الكلمة الأخيرة في البيت الشعري التقليدي- التي تتضمن القافية وصوت الروي- تمثل نهاية للبيت على مستويات ثلاثة؛ دلاليّ، ونحوي، وصوتي. فلو نظرنا في هذا البيت مثلا:


لخولة أطلال ببرقة ثهمدِ      تلوحُ كباقي الوشم في ظاهر اليدِ


سنلاحظ أن كلمة (اليد) هي التتمة النحوية لجملة التشبيه، والتتمة الدلالية التي لم يكتمل معنى مفيد الا بعد ورودها، فضلا عن كونها النهاية الصوتية المادية للبيت.
وقد كان الشعراء بحسهم المتقدم باللغة يفيدون من الإمكانات اللغوية التي توفرها القوافي في توليد الإدهاش لدى المتلقي لانتزاع إعجابه، وإحساسهم باللغة كان أكثر تقدما من إحساس الشراح والنحاة، فكانوا يكسبون استحسان المتلقي تاركين النحاة في حيرتهم.
لم ينل بيت من الشعر العربي التقليدي من العناية والتحقيق ما ناله مطلع معلقة امرئ القيس:


قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزلِ   
                       بسقط اللّوى بين الدخول فحومل


ولكني ذهلت عندما وجدت الشراح والنحاة غير قادرين على تعليل استخدام الشاعر (الفاء) بدلا من (الواو العاطفة) في كلمة القافية (فحومل)، فالقاعدة تقضي بذلك إذ كما يقول النحاة لا يجوز القول (جلست بين زيد فعمرو)، بل إن الشراح لم يلتقتوا إلى هذه العبارة، فالمرزوقي في شرحه لم يلتفت إلى البيت إطلاقا، وكأن معناه مفروغ منه، أما الزوزني فشرحه شرحا مفصلا، ولكنه تغافل عن قول الشاعر (فحومل)، فقال:((وذلك المنزل، أو ذلك الحبيب، أو ذلك البكاء بمنقطع الرمل المعوج بين هذين الموضعين)).
وقال الأصمعي وهو أحد رواة القصيدة:(( إن الصواب روايته بالواو لأنه لا يجوز جلست بين زيد فعمرو...))، فخطّأ الشاعر أو راويه.
وأما النحاة فمنهم ابن هشام في مغني اللبيب قال معرض حديثه عن معاني (الفاء العاطفة):(( وتارة بمعنى الواو كقوله"  بين الدخول فحومل ... "))، فلم يجد تعليلا سوى إلغاء أثر هذا الحرف جملة.
وإذا أمعنّا النظر في البيت سنجد أن الشاعر استغلّ كلمة القافية لتوليد معنى شعري لا يستطيع النحو الكشف عنه، فقد أعطى (الفاء) كثافة لافتة للكلمة، لا يمكن أن تفهم إلا في سياق البيت، فالفعل (قفا) يعني أن المخاطبين كانا يسيران والشاعر يستوقفهما، ولكنه لم يقل ما إذا كانا قد أجابا طلبه أم لا، ولذلك ذكر المكانين بالترتيب (الدّخول فحومل)، ليعطي الانطباع بالسير واتجاهه، فهم يسيرون من (الدّخول) باتجاه (حومل) وهم الآن في مكان بين الموضعين.إن كلمة (بين) تختلف عنها تلك التي جاءت في بناء قافية شاعر آخر:


فوالله لولا الله والناس والحيا    لقبلتها بين الحطيم وزمزمِ


فامرئ القيس كان بحاجة لتكثيف معناه لتوليد شيء من الإدهاش، أما هنا فالشاعر يولد الإدهاش اعتمادا على قدسية المكانين اللذين وقف بينهما.
لقد أدى تراكم خبرة الشاعر العربي عبر مئات السنين إلى أن يقوم بتطوير تكنيكات خاصة بالقافية تجعلها العنصر الرئيسي لتوليد الإدهاش، تكنيكات تعطي إشارات للمتلقي تجعله يخمّن القافية قبل الوصول إليها مما يجعله شريكا في عملية إنتاج النص، ومن تلك التكنيكات التصريع الذي يغلب أن يأتي  في مطالع القصائد. والتوشيح الذي يعني أن يكون صدر البيت منبئا بآخره مثل قول البحتري:


فليس الذي حللته بمحلّلٍ     وليس الذي حرّمتهُ بمحرّمِ


ورد الأعجاز على الصدور الذي يعني إيراد كلمة القافية في صدر البيت قبل أن تأتي في آخره مثل قول عروة بن أذينة:


حجبت تحيتها فقلت لصاحبي    ما كان أكثرها لنا وأقـــــــلها
فدنا فقــال لـــعلها مـــــعذورة     في بعض رِقْبتها فقلت لعلها


لقد تعلم الشاعر العربي التقليدي إدهاش متلقي شعره ببراعة قوافيه، والمتلقي هو الآخر تعلم الاستجابة للقافية والإعراب عن إعجابه بالقافية البارعة بكلمات شاع سماعها (أحسنت – أعد).
يستجيب القارئ للقافية التقليدية بمحاولة حدسها قبل الوصول إليها، اعتمادا على ثلاثة محددات؛ معرفة صوت الروي (حسب ما ورد في الأبيات السابقة)، والوزن، والبنية الدلالية، ففي بيت مثل هذا:
إذا رأيت نيوب الليث بارزة      فلا تظنن أن الليث يبتسمُ


ليس على المتلقي أن يبذل جهدا كبيرا ليحزر القافية فهو يعرف الروي (ميم مضمومة)، ويعرف الوزن، وتدله فكرة الأنياب البارزة على معنى الضحك.
هذه الخبرة المشتركة بين المنتج والمتلقي أدت إلى أن يبدو البيت التقليدي مبنيا من أجل قافيته، فهو يتسارع باتجاهها ليصل غايته ومنتهاه.
والقافية بهذا الفهم مثلت المظهر الأبرز من مظاهر الإبداع الشعري، ذلك لأن على الشاعر، على الرغم من الانضباط الصارم للقصيدة التقليدية، أن يأتي بقافية لا يبدو عليها التكلف، بحيث تبدو جزءا أصيلا من جسد البيت، فضلا عن ضرورتها للمعنى، إذ أنهم اشترطوا في القافية أن تضيف معنى لا غنى عنه لاستكمال الدلالة الشعرية.
ونرى أن الثورة على هذا المفهوم للقافية يمكن أن تعد أبرز إنجازات قصيدة التفعيلة في أربعينات القرن الماضي.فقد أدّى ذلك إلى تغير جوهري في مفهوم الشعر ذاته، فقد فقدت القصيدة إيقاعها العالي الذي كان يعلو على كلّ صوت فيها، وكان على الشاعر أن يجد عنصرا فنيا جديدا لإدهاش المتلقي، فكانت الصورة الشعرية هي ذلك العنصر المنشود. ولننظر مثلا في هذا المقطع الاستهلالي لقصيدة (غريب على الخليج) للشاعر بدر شاكر السياب:


الريح تلهث بالهجيرة كالجثام على الأصيل
وعلى القلوع تظل تطوى أو تُنشّر للرحيل
زحم الخليج بهن مكتدحون جوّابو بحارِ
من كل حافٍ نصف عاري
وعلى الرمال على الخليج
جلس الغريب يسرح البصر المحيّر في الخليج
ويهد أعمدة الضياء بما يصعّدُ من نشيج


لم يعد بإمكان المتلقي حدس القافية، فالشاعر حرّ في اختيار قوافيه تماما، ولهذا لم يعد السطر الشعري متجها إلى نهايته الفيزياوية، بل، عوضا عن ذلك، صار اتجاه حركة الجمل عموديّا نازلا إلى الأسطر التالية، فكلّ سطر ينتظر إتمام دلالته في السطر التالي حتى نصل إلى نهاية دلالية لا صوتية. وفي المثال السابق يلاحظ أن كل الجمل ترسم صورة خلفية للسطر الأخير الذي يضع (الغريب) بطل القصيدة على هذه الخلفية.
إنّ فك الارتباط  بين اتجاه التلقي والقافية أدى إلى تغيير جوهري في وظيفتها، فعند تخلص السطر الشعري من حتمية القافية الواحدة، لم تعد القافية مركزا يستقطب انتباه المتلقي، ولم تعد إقفالا حتميا على أي من المستويات الثلاثة (الصوت-النحو-الدلالة).
أصبحت القافية في قصيدة التفعيلة تشكّلا اختيارياً خاضعا للضرورات الفنية والجمالية كما يريدها الشاعر، ولذلك صار بإمكانه توجيه قدراته الإبداعية باتجاه الصورة الشعرية والنظر إلى أنظمة التقفية بوصفها أدوات لخدمة تلك الصورة ودلالتها الشعرية.
في النص السابق كان السياب يريد رسم صورة بطله على خلفية ساكنة توحي بالحزن، ويمكننا ملاحظة استخدام قافية مقيدة مسبوقة بـ(توجيه)، وهو حرف المد الساكن الذي يسبق الروي (الأصيل-الرحيل-الخليج-النشيج)، والحركة الوحيدة في المشهد صورة البحارة البعيدة وهم يحاولون كسب رزقهم من بطن البحر، فأظهر الشاعر حركتهم بالقافية المطلقة (بحارِ-عاري).


الناقد د.ثائر العذاري


الأحد، 16 أغسطس 2015

الأخطل الصغير .. شاعر الهوى والشباب المنسي

يزخر تراث الشعر العربي التقليدي بكثير من العبقريات التي تتطلب إعادة قراءة أعمالها في ضوء  المتغيرات الفنية الكثيرة التي يشهدها المشهد الشعري المعاصر، فتلك العبقريات تمدنا بتجارب إبداعية نافعة جديرة بالوقوف عليها.
ويبرز بشارة الخوري أواسط القرن العشرين بوصفه واحدا من الشعراء المجددين الذين حاولوا تلمس طريقهم إلى العصرنة وسط غابات التراث الكثيفة المتشابكة التي لا تكاد تتيح لمن يحاول اجتيازها طريقا. فقراءة سريعة لديوانه يمكن أن توصل القاري إلى أهمية هذا الشاعر في خارطة التجديد الشعري العربي.
يحاول الأخطل الصغير أن يبني لغة شعرية تخرج من سلطة التراث القائمة على البناء الثنائي الذي يتكون من تشكيل مقابلة ما بين الصدر والعجز في البيت الشعري التقليدي. ونحاول في هذا المقال القصير إنارة بعض الجوانب الفنية في شعره.
يقوم تكنيك الأخطل الصغير في الغالب على محاولة إدخال القارئ في تجربة انفعالية جديدة تعتمد على صدمة شعورية غير متوقعة، ولنقرأ مثلا هذين البيتين وهما مطلع قصيدته في رثاء الزعيم المصري سعد زغلول:


قالوا دهت مصر دهياء فقلت لهم      هل غيّض النيل أم هل زُلـزل الهرمُ
قالوا أمرّ وأدهـى قلت ويحـكمُ      إذن لقد مات سعدٌ وانطوى العلمُ


يمهد الشاعر في الأشطر الثلاثة الأولى للحديث عن حدث جلل، غير أن المتوقع أن يواصل إدراج احتمالات أخرى غير (غيض النيل و زلزل الهرم)، لكنه يصدمنا في الشطر الرابع بلهجة العارف الخبير بأنّ لا شيء أكثر هولا من هذين الأمرين سوى موت سعد زغلول. والملاحظ أن هذه الصدمة لا تعتمد على اللغة ذاتها بوصفها الجسد المادي للقصيدة بل تقوم على بناء الدلالة المفاجئة، لكنه لم يهمل الناحية المادية في تكنيكه هذا، فجاء بناء البيتين غير معتاد وغير تقليدي، فعلى الضد مما سار عليه شعراء العمود التقليدي في تصريع مطالعهم، جاء مطلع قصيدته بغير تصريع، بينما جاء البيت الثاني الذي ذكر فيه اسم المرثي مصرعا، وقد زادت هذه اللفتة الفنية من قوة الصدمة، بإبرازها كلمة (ويحكم) التي تعتمد التجربة الانفعالية المتوخاة على معناها.


وقد أبدع الأخطل في نظم قصص الحب في مطولات قصائده، وأبرز تلك القصائد (عمر ونعم) و (عروة وعفراء) و(المسلول) و(سلمى الكورانية)،  وتحمل هذه القصائد سمات تخرجها من تقاليد العمود الصارمة إلى حد كبير.
في (المسلول) مثلا، يخرج الشاعر من تقليد نقل الحوار بوساطة فعل القول (قال وقلت) كما هو معتاد في الشعر التقليدي مثل ما فعل عمر بن أبي ربيعة:


قالت الكبرى أتعرفن الفتى        قالت الوسطى نعم هذا عمر
قالت الصغرى وقد تيمتها           قد عرفناه وهل يخفى القمر


فجاء الحوار في قصيدة (المسلول) بطريقة مسرحية معتمدا على علامات الترقيم:


نم لا تسلط يا حبيبِ على        مخمورِ جسمِك قلّة  الجلدِ
عيناك متعبتان من سـهرٍ        ويداك  راجفتان من جهدِ
- لا لا أنام ولا أذوق كرى     إنّ النهار مضى ولم يعُدِ
...............
- نم لا تكابر كاد رأسك أن     يهوي بكأسك غير أن يدي
- يهوي نعم يا فتنتي ومنى       نفسي وزهرة جنة الخــلدِ


يتضح من هذا المقطع أن الشاعر ينقل الحوار بطريقة مسرحية مباشرة، وهذا لم يكن أمرا معتادا ذلك الوقت.


والسمة المهمة التي يتسم بها شعر الأخطل الصغير هي طريقته في بناء الصورة الشعرية، فالشاعر ينعتق من أسر التقليد الموروث الذي يقوم على التشبيه والأساليب المشتقة منه استعارة وكناية وغيرها، فصوره تضج بالحركة، فقد تنبه إلى أهمية الفعل في بناء الصورة:


تعجب الليل منها عندما برزت       تسلسل النور في عينيه عيناها
فظنها وهي عند الماء قائــمة       منارة ضمها الشاطي وفدّاها


يمكننا ملاحظة تصويره بريق العينين في جملة يتفاعل فيها الليل مع عيني الشخصية الموصوفة، ليبني صورة حيوية، وفي البيت الثاني لم يقل (كأنها منارة) بل جعل التشبيه في ذمة الليل ونسب إليه الظن. وانظر إضافة (الشاطي) إلى الصورة وإعطائه فعلين هما (ضم و فدّى). وفي (الصبا والجمال) قال:


سكر الروض سكرة صرعته          عند مجرى العبير من نهديكِ
قتل الورد نفسه حسدا منك          وألقى دماه في وجنتيك
والفراشات ملت الزهر لما             حدثتها الأنسام عن شفتيك

بإمكان القارئ أن يلاحظ التكنيك ذاته، فالروض يسكر والورد يقتل نفسه والفراشات تملّ الزهر أفعال تتوسط أركان التشبيه التقليدي لتحوله إلى صورة دينامية فاعلة. غير أ، هناك شيء آخر لابد من رصده لإبراز قدرة الشاعر في التصوير، وهي إدخال عنصر في التشبيه غير المشبه والمشبه به التقليديين، ففي البيت الثالث في القطعة السابقة جاءت عبارة (حدثتها الأنسام) بوصفها عنصرا مضافا إلى المشبه (شفتيك) والمشبه به (الزهر) لتكسب الصورة مزيدا من الحركة والتفصيل.

السبت، 15 أغسطس 2015

شعراء الكيس

بوصفي تدريسيا لمادة الأدب العربي الحديث في الجامعة، أعاني كل عام من محاولة إيجاد تعريف واف للصورة الشعرية، خاصة أني أعود  طلبتي على التعريفات ذات الطابع العلمي البحت التي تزيل الغموض عن المعرف وتكون جامعة مانعة. ثم لا أجد تعريفا أفضل من : ((هي بناء الشاعر لعلاقات بين أشياء لا توجد بينها علاقة في الواقع.)).  وهدا التعريف قد يكون قريبا من طبيعة الصورة الشعرية لكنه لا يخرجنا من اللبس تماما.
ما علاقة هذا الكلام بالعنوان الغريب الذي اخترته لهذه المقالة؟ سأحكي لكم حكاية طريفة، أعود بعدها الى الموضوع.
لي خال ينيف عمره الآن على السبعين، معلم قديم يحب الشعر ويحفظه وينظم العمودي منه، لكنه يكره الأساليب الحديثة خاصة تلك التي تميل إلى الغموض. سجن هذا الرجل عام 1963  بعد انقلاب الثامن من شباط في سجن نقرة السلمان مع مجموعة من المثقفين العراقيين بتهمة الانتماء الى الحزب الشيوعي العراقي، وفي القاعة التي سجن فيها كان معه شاعران عراقيان معروفان، الأول كان ممن ينظمون القصيدة العمودية التقليدية وقد يكتب القصيدة الحرة السيابية، أما الثاني فكان من دعاة التحرر وشعر التأمل الذي يتخذ من الصورة المعقدة الغامضة أساسا. وفي يوم من أيام الاعتقال تلك اتفق خالي مع الشاعر الأول على تدبير مقلب ساخر لصاحبهما. فجاءا بمجموعة كبيرة من القصاصات الورقية وراحا يكتبان على كل قصاصة كلمة واحدة من اللغة الشعرية ذلك الوقت مثل عصفور شجرة أزهار شمعة يضيء يحترق ........الخ ووضعا تلك القصاصات في كيس ورقي، وبطريقة تشبه القرعة أخذا يسحبان قصاصة عشوائية في كل مرة ويربطان بينها وبين كلمة القصاصة التالية، حتى كتبا مجموعة كبيرة من الأسطر بتلك الطريقة، فذهبا بها الى صاحبنا وقالا انهما اقتنعا بطريقته في النظم، وجربا كتابة نص يريدان رأيه فيه.
راح صاحبنا يقرأ النص ويهز رأسه حيرة واندهاشا وربما إعجابا، ثم قال لهما إن هذا نص عميق ومذهل.
أفهم الفن، أي فن، على أنه نظام جمالي يمتاز بالانضباط، ويكون العمل الفني مدهشا بقدر ما يستطيع أن يجد تراكيب جديدة ومدهشة رغم ذلك الانضباط الصارم للقوانين الفنية. غير أن ثمة عاملان مهمان أديا الى ظهور ظاهرة خطيرة سأسميها ظاهرة شعراء الكيس؛ أما الأول فهو الاتجاه الى كتابة النصوص النثرية بلغة شعرية بما يعرف بقصيدة النثر أو النص المفتوح، الذي صور للبعض أن الشعر مركب سهل كل ما يحتاج اليه أن تكون عارفا بالقراءة والكتابة والهذيان، وأما الثاني فهو النشر الألكتروني المتاح للجميع من غير ضوابط أو مسؤولية، وقد أسهم هذان العاملان في إحداث نقلة نوعية في الأدب العربي، ولكنهما في الوقت نفسه أنتجا موجة عارمة من التشويش، وطوفان من شعراء الكيس.
يكفيك أن تزور أي موقع ألكتروني ثقافي لترى الأعاجيب من النصوص والتعليقات الملحقة بها، شاعر لا يعرف أن حرف الجر يجر، وأن الهمزة المكسورة تكتب على ياء,...... هذا ليس ذنبه طبعا ما دامت الكلمات تخرج من الكيس، ثم يأتيك آخر ليكيل المديح للشاعر الأول ويصوره بأنه الشاعر العظيم النحرير، وتجد أن هذا المعلق يكتب كلمة (لكِ) هكذا (لكي) وكلمة (يؤذن) مثلا هكذا (يأذن) وينصب الفاعل و.............. وهو غير ملوم طبعا ما دامت الكلمات تخرج من الكيس.
هل يمكن أن يكون الإنسان شاعرا وهو لا يمتلك أبسط مستلزمات الصنعة وهي النحو والإملاء، أم ترى سيقال هنا أيضا إن هذا تجديد وثورة على اللغة القديمة وابتكار لغة جديدة مناسبة لروح العصر.
الصورة الشعرية هي ابتكار لعلاقات جديدة بين أشياء لا توجد بينها علاقة في الواقع، لكنها في النهاية يجب أن تعيد تركيب العالم وتقدم رؤية جديدة مفهومة ولم تخطر على بال أحد من قبل، يجب أن تضيء العالم وتجعلنا نفهمه أكثر من ذي قبل على أن تكون منضبطة بقانون يحكم ديناميتها ولا تكون محض هذيان (كيسي).
لا شك أن النقاد والدارسين يتحملون مسؤولية كبيرة للارتقاء بالذوق العام وتدريبه على معرفة الزائف والرديء من الأصيل والجميل. ولا شك أن أصحاب المواقع الثقافية أيضا (بالمناسبة ثمة شاعر كيس يكتب أيضا أيظا) يتحملون المسؤولية في أن يحدوا من نشر الرديء ويشجعوا نشر الجميل وفي الأقل لا ينشرون تلك النصوص المليئة بالأخطاء الإملائية والنحوية وأن ينبهوا الشباب إلى أن معرفة أصول اللغة شرط أساسي من شروط الكتابة الأدبية. ومن غير هذا اقرؤوا على الأدب العربي السلام، فالعملة الرديئة تطرد العملة الجيدة كما كان ت.س. إليوت يقول

 
 

الجمعة، 14 أغسطس 2015

إيقاع النثر


مع شيوع كتابة النصوص النثرية في المشهد الثقافي العربي أصبح لزاما على الدارسين بحث هذه الظاهرة ، ودراسة الأساليب الفنية والجمالية التي تتميز بها أو التي ترتقي بها.

إن توجه الشعراء العرب باتجاه النص الشعري النثري ، لا بد أن يطور أنظمة جمالية تحل محل انضباط الشعر التقليدي ، وما من شك في أن الإيقاع هو العنصر الهيكلي الرئيس في كل الفنون ، أكانت زمانية أم مكانية، وليست فنون اللغة بدعا من تلك الفنون .

ليس الإيقاع عملية تكرار منتظمة لعنصر أو عناصر معينة على مُدد متساوية من الزمان أو المكان، فهذا تبسيط مخل للتعريف ، فالتكرار وحده لا يكون إيقاعا، تصور مثلا صوت تكتكات الساعة ، إننا بالكاد ننتبه اليها، واعتيادنا عليها يجعل ادمغتنا لا تدخلها في تفسيرها للعالم المحيط بنا ، على الرغم من إنها تكرار في غاية الانضباط لصوت واحد محدد. ومن ناحية أخرى يقود التكرار الى تخيل سلسلة لا متناهية من التوقعات لأننا مع كل ضربة نتوقع الضربة التالية ونعرف موقعها بالضبط، وهذه السلسلة من التوقعات تؤدي بنا الى تصور نظام لا متناه من الضربات مما يحملنا على تجاهل النظام بكامله.

صحيح ان التكرار هو الركن الأساسي لبناء نظام ايقاعي لكنه وحده لا يبني ذلك النظام ، فالإيقاع يقوم على توقع المتلقي للتكرار التالي ، وتلبية هذا التوقع بشرط أن تكون لهذه السلسلة من التوقعات نهاية واضحة، أي أن الفنان يقوم بتلبية توقع المتلقي لعدد من التكرارات ، وفي مرحلة أخرى يقوم بتخييب توقعه بإيراد عنصر غير العنصر المتوقع ، وقد يكون هذا العنصر الجديد بداية لسلسلة أخرى من التوقعات والخيبة وهكذا.

يمكننا أن نلمس هذا الفهم للإيقاع بوضوح في الموسيقى على أساس انها الفن الأكثر تطلبا للإيقاع ، وأكثرها وضوحا من هذه الناحية ، فكل قطعة موسيقية أو أغنية تتألف من مجموعة من التكرارات المتداخلة ، لكن هذه التكرارات كلها تتجه الى النهاية حيث يقوم واضع اللحن بإدخال لازمة مختلفة تماما عن التكرارات السابقة مما يقود الى ايقاف سلسلة التوقعات والإشعار بالنهاية.

في الفنون التشكيلية يمكن أن نلاحظ سريان هذا الفهم أيضا، لكن بشكل أقل وضوحا ، الا انه يكون واضحا في فن التصميم ، يمكننا أن نشير مثلا الى النقوش الموجودة على الألبسة النسائية، فالنقش على قطعة القماش يتكون من تكرار لا متناه لعناصره لكن مصمم الأزياء ، لابد أن يضع نهاية لذلك التكرار والإشعار بالنهاية فيلجأ الى وضع قماش من لون آخر أسفل الثوب أو يغير من اتجاه التكرار نفسه أو أية طريقة أخرى لإيقاف سلسلة التوقعات.

في الشعر التقليدي العمودي يتم بناء الوزن الذي هو شكل من اشكال الإيقاع من تكرار الأصوات المتحركة والساكنة  بنظام منضبط للغاية ، ثم تأتي القافية بتركيب صوتي مختلف لكسر سلسلة التوقعات ، غير أن الشاعر التقليدي يواجه مشكلة فنية كبيرة في انهاء قصيدته ، لأن القصيدة عمليا ستتألف من تكرار البيت الواحد تكرارا يحتمل اللاتناهي ، مما يضطره الى البحث عن طرق أخرى غير الوزن للإشعار بالنهاية، وغالبا ما يعتمد شاعر القريض على المعنى اذ يبني جملة تقول للقارئ (قف لقد انتهت القصيدة).

أما شعر التفعيلة فقد أعطى الشاعر إمكانات جديدة كثيرة لإيقاف تدفق تكرارات الإيقاع، فبإمكانه ان يعتمد على القافية اذ يأتي بنظام تقفية لا يكون تكرارا للأنظمة السابقة. أو يمكنه الاعتماد على طول السطر اذ يأتي في نهاية قصيدته بسطر أو عدة أسطر تختلف أطوالها اختلافا بينا عما سبق ، وغير ذلك..........

أما في النثر فإن الإيقاع نظام معقد ، ولكنه موجود ، والكاتب الذي لا يمتلك احساسا بإيقاع كتابته ، لا يمكن أن يكون كاتبا كبيرا.

يعتمد إيقاع النثر على عدد من العناصر القابلة للتكرار، لعل أبرزها أطوال الجمل وعلامات الترقيم والطبيعة الخطابية للجمل من حيث كونها اثبات أو نفي أو استفهام. لكن لا يجب أن يغيب عن أذهاننا فكرة انهاء التوقع السالفة الذكر.

يعد الاعتماد على أطوال الجمل واحد من أهم أساليب بناء الإيقاع في النثر، فضلا عن توظيفه لأداء بعض من جوانب المعنى.فمن التكنيكات الشائعة ذلك الذي يمكن أن نسميه تكنيك الإقفال، ويسمى بالإنكليزية (Capping) ويقوم على ان يأتي الكاتب بعدد من الجمل الطويلة نسبيا ، ثم تأتي جملة واحدة قصيرة بشكل ملحوظ بالنسبة للجمل السابقة ، هذه الجملة طبعا ستشعر بانتهاء تكرار الطول ولذلك فهي غالبا نهاية أيضا للفقرة التي وضعت فيها، وايذان ببدء سلسلة جديدة من التكرارات.

ولعل كتاب النصوص النثرية ذات الطابع الشعري هم أكثر كتاب النثر حاجة للإيقاع ، فبتنازلهم عن الوزن التقليدي للشعر ، يكون عليهم ايجاد البدائل الجديرة باحتلال المكانة التي كان يشغلها الوزن، وقد نجحوا في تطوير عدد من التكنيكات المبتكرة في هذا السياق ، غير أن مشكلتها أنها غير موجودة مسبقا في ذهن القارئ مثلما كان حال الوزن ، ولذا فهي تتطلب قارئا أكثر قدرة على تلمس مكامن الإيقاع واكتشاف أسرار بنائه ، ولنأخذ مثلا (رسالة الى أوروك) للشاعرة العراقية آمنة عبد العزيز:

 

يحدّثني بانا ..

وانا من بعده

الانا لاتكون ..

يستعرض تاريخه

واسفاره .........

ومحطاته المنهكة

بالنساء .........

والوجوه الخمرية

والبيض والسمراء

واحاديث لا تفضي

الا اليه ..

وصفحاته الخالية

من الاسماء .........

ورقم امراة ......

التقاها هنا ..

وامراة صادفها  هنا ك......

يسترسل بتفتيت ......

بنياني ..

واصمت وبين دهشتي.......

تراتيل ازمنتي ..

غيابه يطفىء   

ذاكرتي الماضي

وحاضره نار

حروفي .....

اريد ان اعبر

قلاع الشوق

العاليات ..

بلهفة امراة

العصور ..

لا تستفز سباتي

بعد ايقاضه ..

قوافل حزني

التائهة ..

لا تدعها تظل

دروب فرحك

هزّ بيد حنانك

مهد طفولتي .......

تدلّت ثمار نضوجي

بزهو بين راحات

القبل ..

لا تعبث بطفولتي

الخجلى الا منك

اوقف صراخي الاول

الا اليك ..

 ( ومثل فزّة طفل روحي

تفز لو سمعت بطرواك )

مرّر براحتيك

فوق ليلي .......

ساطلعك على غابات

الحناء ..

واين يكون

ضوع عطري

ادمنتك بين الحنايا

قصيدة ..

 (وروحي حلاوة ليل

محروكة حرك روحي)

هناك في مملكتي

نيسان ..

تختبىء الضفائر

بين القصب

والبردي ..

ورائحة المسك

بين التنهدات ..

وعطر ارض

العنبر ..

(ورد للناصرية ردود)

ارجع الى مكان

كان الهوى والعشق

الازلي ..

والشوق المقيد

بتاريخ الجمر

 ( ورديت وجدامي تخط )

تخط اشتياق

لا تقوى على حمله

اجزائي .......

 ( نهد حيلي بيك)

ملاك اخطأ طريقه

الى الارض ..

نزل بيتك الآمن

ساقية الروح قلقي

والسراب المؤجل

 (وياحريمة انباكت الجلمات

من فوك الشفايف)

جفت الشفاه

عطشى لذا الثغر

المحرّم ..

نعم لعذابات اانسها

ولا لفراق وجفاء

 آمنه ..

 انت شيفرة العمر

 فكّ بي رموزك ..

 

ان التكنيك الأبرز الذي يمكن ملاحظته من النظرة الأولى هو توظيف الشاعرة الفضاء الطباعي وسيلة لبناء نظام ايقاعي مكاني ينتظم النص كاملا، فالأسطر الطويلة نسبيا ترد على ابعاد متساوية من بعضها ، بحيث تدركها العين من النظرة الأولى.، لكنها تسرع  هذا التكرار حين تصل نهاية نصها ليكون اشعارا بالنهاية. مع ملاحظة وعي الشاعرة بتوظيف الإيقاع المكاني فنهاية السطر ليست بالضرورة نهاية الجملة أو موضعا لعلامة ترقيم انما هي نهاية عندسية مكانية.

في النص ايضا تكرار مقاطع من أغنيات فولكلورية، وعددها ستة مقاطع وجميعها موزون بالعروض التقليدي فالثلاثة الأولى من الهزج ، والثلاثة الأخيرة من الرمل ، هناك اذن ايقاع تكون من تكرار المقطع القولكلوري وآخر تكون من تكرار الوزن العروضي للمقطع.

ثمة تكنيك آخر ابتكرته الشاعرة هنا ، فمقاطع النص الواقعة بين كل مقطعين قولكلوريين يمثل كل منها وحدة موضوعية مستقلة وما ان يأتي المقطع الفولكلوري الآخر حتى يأتينا مقطع يدخلنا في وحدة موضوعية جديدة ، والجميل هنا هو تكرار الاختلاف ، فبعد كل مقطع فولكلوري يتوقع القارئ انه سينتقل الى معنى جديد وتلبي الشاعرة توقعه.

وفي داخل كل مقطع تصنع الشاعرة ايقاعا خاصا، ففي المقطع الواقع بين  (وروحي حلاوة ليل محروكة حرك روحي) و (ورد للناصرية اردود) يمكننا ملاحظة النظام الإيقاعي المكون من المعطوفات المفردة و (الواو) العاطفة، وفي أي مقطع آخر سنجد نظاما ايقاعيا ما ينتظمه.

 

(أنا) الجواهري


يشترك الشعراء أينما كانوا وفي أي زمان باتصافهم بالنرجسية وتضخم (الأنا)، ولكنهم يختلفون في درجتها وتمظهراتها، فقد تكون خفية عند بعضهم، وقد تكون ظاهرة طاغية عند الآخر.، ومهما يكن من أمر هذا الاختلاف تظل النرجسية من المكونات البارزة للشخصية الإبداعية للشاعر.

إن كل من يقرأ شعر الجواهري يلمس بوضوح شبها كبيرا بينه وبين المتنبي، من هذه الزاوية، فكلاهما عبر عن الشعور بالتفوق في أكثر من موضع، فالمتنبي حين يقول :

 

سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا         بأنني خير من تسعى به قدمُ

 

لا يختلف عن الجواهري في قوله:

 

تسامَي فإنك خيرُ النفوس        إذا قيس كلٌ على ما انطوى

 

غير أن (أنا) الجواهري أكثر تعقيدا، فبينما نجد (أنا) المتنبي شديدة الوضوح في تضخمها وتلبسها بحالة التفوق، تتخذ (أنا) الجواهري أشكالا عدة، متداخلة ومعقدة أحياناً، وإن كانت جميعها تعود في النهاية الى فكرة التفوق. ونحاول في هذه المقالة استقصاء أشكال (أنا) الجواهري وتصنيفها.

 

1-(أنا) السوبرمان:

هذه هي الظاهرة الكبرى لقضية (أنا) الجواهري، فالشعور بالتفوق هو الشكل الذي يطفو على السطح غالبا عندما يمس موضوع القصيدة شخصية الشاعر مباشرة.

في قصيدته في تكريم هاشم الوتري قال:

 

يتبجَّحُونَ بأنَّ موجاً طاغيا

 
سَدُّوا عليهِ مَنافذاً ومَساربا

كَذِبوا فملءُ فمِ الزّمان قصائدي

 
أبداً تجوبُ مَشارقاً ومغاربا

تستَلُّ من أظفارِهم وتحطُّ من

 
أقدارِهمْ ، وتثلُّ مجداً كاذبا

نا حتفُهم ألِجُ البيوتَ عليهم

 
ُأُغري الوليدَ بشتمهمْ والحاجبا

خسئوا : فَلْمْ تَزَلِ الرّجولةُ حُرَّةً

 
تأبى لها غيرَ الأمائِلِ خاطبا


هذه الأبيات الخمسة تقدم فكرة واضحة عن السوبرمان الذي يراه الشاعر في نفسه، فنحن هنا أمام صورتين، الأولى صورته في عين أعدائه،  والثانية صورته في عينه هو؛ أما الأولى فترد في البيت الأول:

 

يتبجَّحُونَ بأنَّ موجاً طاغيا         سَدُّوا عليهِ مَنافذاً ومَساربا

 

فهم ينظرون إليه على أنه موج لبحر متلاطم لا يعرف منبعه ولا مصبه، ويزعمون أنهم استطاعوا  حصاره، لكنه لا يرى هذه الصورة ممثلة لحقيقة السوبرمان فيأتي بالصورة الثانية في الأبيات الأربعة التالية. والصورة تظهره الشاعر الذي يتكفل الزمن برواية قصائده ، تلك القصائد التي تترك أثرا بالغا عليهم ،فتحط أقدارهم وتقلل شأنهم وتجعلهم ضآل القائمة أمامه، ثم يصور نفسه (حتفهم) الموت الزاحف اليهم حتى في مضاجعهم.

من المهم أن نذكر هنا ملاحظتين؛ أما الأولى فهي التشابه الكبير بين هذه الصورة والصورة التي يرسمها المتنبي لنفسه:

 

وما الدهر الا من رواة قصائدي

 
اذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا

فسار به من لا يسير مشمرا

 
وغنى به من لا يغني مغردا


 الزمن (الدهر) هنا أيضا يقوم بمهمة رواية قصائد الشاعر كناية عن خلودها، غير أن قول المتنبي أبلغ في تأدية المعنى اذ جعل الدهر (من رواة) قصائده وليس الراوي الوحيد كما في قصيدة الجواهري.

أما الملاحظة الثانية فهي أن الجواهري ضخم صورته في مقابل تصغير رؤية أعدائه له على المستوى البنائي أيضا، فبينما عرض نظرة أعدائه اليه ببيت واحد ، عرض نظرته الى نفسه بأربعة أبيات.

نجد هذه الصورة في مواضع كثيرة من شعر الجواهري فمن مقصورته الشهيرة  قوله :

 

وإذ أنت ترعاك عين الزمان

 
ويصفو لجرسك سمع الدنى

وتلتفّ حولك شتى النفوس

 
تجيش بشتى ضروب الأسى

وتعربُ عنها بما لا تُبين

 
كأنك من كلّ نفس حشا

فأنت مع الصبح شدو الرعاة

 
وحلمُ العذارى اذا الليل جا

وأنت اذا الخطب ألقى الجران
ألَحتَ بشعرك للبائسين

 
وحطّ بكلكله فارتمى
بداجي الخطوب بريق المنى


هنا يظهر الشاعر بصورة الضمير الجمعي للأمة، فهو بما يمتلك من خصائص التفوق أصبح الملجأ الذي يُلجؤ اليه في الخطوب ، واللسان القادر على التعبير الذي ينبت الآمال العراض.

 

2-(أنا) الغريب:

تظهر هذه (الأنا) عندما يحاول الشاعر رسم صورة مجتمعه الذي لا يستطيع فهمه، فمن خلال تصوير الآخر، تظهر صورة الشاعر الغريب الذي لا يتمكن الآخر من إدراك همته وهمه وأحلامه:

 

عدا عليّ كما يستكلب الذيبُ

 
خلقٌ ببغداد أنماطٌ أعاجيبُ

خلق ببغداد منفوخ ومطّرح

 
والطبلُ للناس منفوخٌ ومطلوبُ

خلقٌ ببغداد ممسوخٌ يفيض به

 
تأريخُ بغداد لاعربٌ ولا نُوبُ

لو شئتُ مزقتُ أستاراً مهلهلةً

 
فراحَ سيّان مهتوك ومحجوبُ

لبانَ للناس مصدوقاً بلا دغلٍ

 
مبرقعٌ من إباء القومِ مكذوبُ


شعور مرير بالغربة يلف هذه القصيدة (كما يستكلب الذيب)، فالشاعر يرى نفسه وسط مجتمع ينصب له العداء لا لشيء الا لأنه لا يقوى على فهمه، ومن الناحية الفنية يلاحظ أن الشاعر يرسم (أناه) وغربتها بطريقة غير مباشرة من خلال تصوير الآخرين تصويرا منفرا، وهو في هذه الصورة لـ(الأنا) يلتقي مع المتنبي:

 

ما مقامي بأرض نخلة إلا

 
كمقام المسيح بين اليهودِ

أنا في أمة تداركها الله

 
غريبٌ كصالحٍ في ثمودِ


وقوله في موضع آخر:

 

ذو العقلِ يشقى في النعيمِ بعقلهِ       وأخو الظلالةِ بالشقاوةِ ينعمُ

 

ويشبه المعري في رؤيته لنفسه مقارنة بمجتمعه:

 

ولما رأيت الجهل في الناس فاشياً        تجاهلتُ حتى ظُن أني جاهلُ

 

وفي رائعته (يا أم عوف) نقرأ:

 

إنا أتيناكِ من أرضٍ ملائكها

 
بالمهرِ تُرجمُ أو ترضي الشياطينا

إن لم يلح شبح للخوف يفزعنا

 
فيها يلح شبحٌ للذلِّ يُصمينا


 

فالصورة ذاتها هنا، والغربة ذاتها، إنم الملاك الذي لا يعرفُ الآخرُ منزلته.

 

3-(أنا) العميقة:

تنشأ هذه الـ(الأنا) من التعارض بين صورتين متضادتين؛ الأولى صورة الشاعر في عيون المعجبين بقدراته وتعظيمهم له (كما يرى هو) ، والثانية حقيقته التي لا يعرفها الا هو داخل نفسه ، تلك الحقيقة التي تصور نفسه له فيها أحيانا أنه محض رجل ضعيف تافه، وأريد هنا أن أسوق مثالا جميلا من شعر الجواهري هو قصيدته (رجل) ، وفكرتها تقوم على أن زوجته سمعته يمدح أحد الضيوف بأنه رجل ، فتتساءل عن معنى هذا المدح :

 

وتساءلت عِرسي وفي فمها

 
قلقٌ وفي قسماتها وجلُ

أمس استمعتك تطّري رجلاً

 
من زائريك بأنه رجلُ

أوضح سلمتَ فأنتَ من غنيت

 
المفرداتُ لديه والجملُ

هل قالت الأبقار ذا بقرٌ

 
فينا أم الحملان ذا حملُ

يا بنت فطرتها وكم غنيت

 
بالفطرة الآراء تنتحلُ

الحقّ عندك آمن أبدا

 
طلقٌ وعندي غائمٌ وجلُ

قلَّ الرجالُ فقيل ذا رجلٌ

 
أما الوعول فلم يقل وعلُ

أنا في محيط عشته ملكٌ

 
لو صحت الأمثال والمثلُ

فتصوري ملكا يراودُهُ

 
الكذبُ والبهتانُ والدجلُ

وتصوري ما شئتِ مجتمعاً

 
أنا فيه يومَ تفاخرٍ بطلُ


هذه الأبيات التي اخترتها من القصيدة تصور تصويرا واضحا هذه الـ(أنا) المتعارضة، مجتمع الشاعر الذي يراه هو مجتمعا جاهلا ينظر اليه على انه بطل من الأبطال أو ملك أسطوري، ولأن هذا المجتمع جاهل فان هذه ليست هي صورته الحقيقية العميقة انما هي كما يراها في البيتين الأخيرين ، صورة رجل يدبر أمر حياته بالكذب والبهتان والدجل، وروعة القصيدة في بيتها الأخير الذي يظهر هذا التعارض بشكل جلي بين شخصية الشاعر المجتمعية وشخصيته الحقيقية، اذ يرسم الصورتين بطريقة كاريكاتورية ساخرة.